البحث الخامس: تشبيه التمثيل

اهتم القرآن الكريم بضرب الأمثال وهي أبلغ في التبليغ وأكثر أثراً في النفوس وأشد توضيحاً للأمور.
قال الله تعالى: [أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا] وهو مثل للقلوب وما استوعبت من تحمل العلوم [فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا] أي له ربوة أي رغوة تعلو على الماء) وهو مثل للباطل يحمل على الماء وهو الحق وقد استوعبت القلوب ماء أي حقا ًوزبداً أي باطلا
(و) ثم ضرب مثلاً آخر للحق والباطل [وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ] وهو الذهب والأحجار الكريمة تحرق ليخرج عنها الثغالة المخلوطة بها ويخلص الخالص منها [ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ] من أي المصوغات فالخارج منها (زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ) الأمثال في (الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) مجفو أي لا اعتبار به ومعاف وهالك [مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ](1).
وقال تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا](2).
كل ما يتذكر السامع للكلام الطيب يزيد حبا للمتكلم وكأنه يتغذى بفاكهة طيبة [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ].
كلما تذكرها المخاطب بها يزيد عداوة وكراهة لقائها ويلعنه وقال تعالى في التمثيل لنور محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله [اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ](3) فانوس مثير [فِيهَا مِصْبَاحٌ] لمبة ضوئية [الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ] شفافة [الزجاجة كأنها كوكب دري] واسع الشعاع كالشمس بالإضافة كالدرة الكبيرة [يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ] شجرة النبي محمد(ص) [زَيْتُونَةٍ] كثيرة النفع [لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ] لا يهودية ولا نصرانية مستقيمة بالمحجة الوسطى [يَكَادُ زَيْتُهَا] أفرادها [يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ] [نُورٌ عَلَى نُورٍ] إمام بعد إمام من النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة وعلي وإلى الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.
ثم أوضح وأكد بأن المثل إنما هو لتعريف رجال من أمة الإسلام فعقب بقوله [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ]
قال الشاعر:

ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها  

مرآة تبدبدت في كف مرتعش


مثل الشمس حتى تطلع لامعة مضطربة بمرآة من ذهب تضطرب في كف مريض مرتعش
وليعلم أن التمثيل هو إيجاد صورة حية من خلال حادثة حدثت فيها فيذكرها المتكلم ويشبه بها ما يريد أن يمدحه أو يذمه ولذلك سموا الجسد المنحوت تمثالاً وذلك لأنه يشبه شخصاً معينا وقد صنع مثله في صفاته الجسدية.

التشبيه التمثيل نوعان:

1 - ما كان ظاهر الأداة نحو [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا]
فالمشبه هم الذين حملوا التوراة ولم يعقلوا ما بها
والمشبه به: الحمار الذي يحمل الكتب النافعة دون المكان استفادته منها والكاف هو الأداة ووجه الشبه هي الهيئة الحاصلة من التحميل بدون اختيار وعدم الفائدة بذلك التجشم.
2 - ما كان خفي الأداة كقولك للذي تردد في الشيء بين أن يفعله وألا يفعله: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى.
معناها أراك في ترددك كالذي يمشي بدون عزم فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى.
والأداة محذوفة ووجه الشبه الإقدام والأحجام المصاحبان للشك والريبة

مواقع تشبيه التمثيل: هما موقعان:

1 - أن يكون مفتتح الكلام فيكون قياسا واضحاً وبرهانا مصاحبا وهذا في القرآن كثير نحو: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ].
2 - ما يجيء متأخراً بعد تمام المعاني ولا يضاحها
كقول الشاعر:

(وما المال والأهلون إلا ودائع

فرد الودائع مثال لفراق الأهل والمال

ونحو لا ينزل المجد إلا في منازلنا

 

ولا بديوماً أن ترد الودائع

وهو في آخر عرض التشبيه

كالنوم ليس له مأوى سوى المقل


مقل: بضم الميم وفتح القاف جمع مقلة وهي ظاهر العين المؤلفة من السواد والبياض وهي التي تهنأ بالنوم أكثر من غيرها من أعضاء البدن.


(1) الرعد 13/17.

(2) إبراهيم 14/25 - 26.

(3) النور 24/35.