11 - حسن التعليل:

هو أن ينكر الأديب صراحة أو ضمنا علة الشيء ويأتي بعلة أخرى طريفة ومعتبرة بحيث تناسب الغرض المقصود كقول المعري:

 

وما كلفة البدر المنير قديمة

 

ولكنها في وجهه أثر اللطم.


وكلفة البدر هي النقوش الظاهرة عليها وقد اعتبرها الشاعر خدوشا حدثت بسبب اللطم حزنا على فراق المرثى فالعلة المناسبة لحزنه للموت الخدوش الحاصلة من القتل وهذا الأثر غير حقيقية وقد أدعاها وكذلك علتها غير واقعية.
وكذلك قوله

أما ذكاء فلم تصغر إذا جنحت

 

إلا لفرقة ذاك المنظر الحسن

 

إن الشمس لم تصغر عند جنوحها للمغيب للسبب المعروف ولكنها أصفرت مخافة مفارقتها وجه الممدوح.
وكذلك قوله:

ما قصر الغيث عن مصر وتربتها

ولا جرى النيل إلا وهو معترف

 

طبعاً ولكن تعداكم من الخجل

بسبقكم فلذا يجري على سهل.

 

ينكر هذا الشاعر الأسباب الطبيعية لقلة المطر بمصر ويدعي لذلك أسباباً أخرى وهو أن المطر يخجل النزول في أرض يعمها فضل الممدوح جوده لعدم إمكانه مجاراته في الجود والكرم وكذا عد جريان النيل.
وكيف كان: فمن الأشياء ما له صفة ثابتة وعلل شائعة معروفة كعدم المطر بعدم تشكل غيوم والزلزلة بعلة فراغ أرضي في الأعماق كائن وحدث الحروب بسبب ظهور جهال وحمقى يديرون سياسة البلاد وهكذا ولكن الشعراء يزينون للناس القبيح ويقبحون الحسن ويغيرون العلل ويتلاعبون بالأسباب بأغراض رائعة وحسنة ومبالغات مقبولة وملفتة للأنظار ومعجبة للنفوس ويسحرون أعين الناس وكذلك يفعل الأدباء غير الشعراء.
ولذلك يسمون أدباء وشعراء لأنهم يحركون شعور الناس للطرافة واللطافة وحسن التأليف.
ومن هنا سميت صناعتهم بلاغة وبداعة لأنها تبلغ أعماق الآراء وتكهرب ملالة النفوس وتبدع ريافي يبس ومراءة في الجائعين ولذلك ترى أئمة أهل البيت(ع) قد شدوا همم الشعراء وشجعوا بلاغة الخطباء والأحاديث متوافرة على مدح ذلك كقولهم (من قال فينا بيتا من الشعر دخل الجنة) وترى الأئمة(ع) أنفسهم قد ألفوا من الأبيات الشعرية الكثير ومنها ما حواه ديوان أمير المؤمنين ومنها مناجاته الشعرية الرائعة وكذلك دعاء الإمام زين العابدين في الطواف في المسجد الحرام.
نعم قد غلب على الأدباء والشعراء العصيان لله تعالى فأكثروا من الغزل بالنساء والتشبيب بالجنس والتحريك للنفوس نحو الشيطان والشهوات الآثمة وإشاعة الفساد في الأرض ومدح السلاطين الفجرة المجرمين وذم الصالحين.
كما فعل الكفرة وأتباع الجبابرة الظلمة والقتلة للأنبياء(ع) والصالحين ولنعد لمواصلة الأشعار فإن من الأمور: الأول: ما هو ثابت الوصف وغير ظاهر العلة فيحدث الشاعر له عللاً من عنده.
كقوله:

بين السيوف وعينيها مشاركة

 

من أجلها قيل للأجفان أجفان



زعم الشاعر أن عينيها براقة كبريق السيوف تأخذ بالقلوب كالسيوف لو أخرجت من أغمادها وارتفعت فوق الرؤس ولذلك جعلت لها أجفان وسميت أجفانا ً.
وقال الآخر:

لم يحك نائلك السحاب وإنما

زعم البنفسج أنه كعذراء

 

حمت به فصبيبها الرحضاء

حسنا فسلوا من قفاه لسانه


النائل: العطاء الكثير والرحضاء: العرق الحاصل في بدن المريض من الحمى
والبنفسج: أزهار معمرة معروفة أوراقها بيضاء وصفراء وبنفسجية ويخرج منه عطر وأدوية واللون البنفسجي معروف بين الأخضر والأحمر والأزرق.
والعذار: هو جانب اللحية الملاصق للأذن والخصلة من الشعر والشعر الذي يحدث في بعض ورق الشجر والخطوط الحادثة في ورق الشجر.
يقول الشاعر أن السحاب لا تقصد مساوات جودك في مطرها لأن عطاءك أكثر وأمطار أغزر ولكنها حمت أي مرضت بالحمى حسداً لك والماء الذي ينصب بالمطر هو عرف الحمى وإن خروج ورق البنفسج غير مستقيمة وإنما ملتوية إلى الخلف وإنما هو عقابه لأنه زعم أنه كعذار المحبوب بالحسن فسلوا لسانه من قفاه!.
وكذا قوله:

 

لم يطلع البدر إلا من تشوقه

ولا تغيب إلا عند خجلته

 

إليك حتى يوافي وجهك النضر

لما رآك فولى عنك واستتر

 

وقوله:

سألت الأرض لم كانت مصلى

فقالت غير ناطقة لأني

 

ولم جعلت لنا ظهرا وطهرا

حويت لكل إنسان حبيبا


وقوله:

عيون تبر كأنها سرقت

فإن دجا ليلها بظلمته

 

سواد أحداقها من الفسق

تضمها خيفة من السرق


الثاني: ما هو وصف ثابت ظاهر العلة وهي غير التي تذكر كقول المتنبي

 

ما به قتل أعاديه ولكن

 

يتقى إخلاف ما ترجو الذئاب



يمدح ممدوحه بأنه لم يكن له غريزة القتل لا عادية كما هو دأب الملوك والسلاطين وإنما من كرمه وجوده لم يرد أن يخالف ما ترجو الذئاب وهي ترجو كثرة اللحوم الميتة لتأكلها.
ومعلوم أن الملوك إنما يقتلون أعداءهم خلاصا من شرهم والانقلاب عليهم.
الثالث وصف غير ثابت وهو إما:
أ - ممكن
كقول الشاعر:

يا واشيا حسنت فينا إساءته

 

نجى حذارك أنساني من الغرق.

 

إن الشاعر استحسن وشاية الواشي عليه واستحسان الوشاية ممكن ولكن التحذر من الوشاية لزمت حتى لا يقع الضرر من وشايته ويسبب غرق العين بالدموع والوشاية: هو ذكر عمل مذموم قد تستتر به صاحبه عند من يعاقبه على ذلك العمل السيء.
والإنسان هو الناظر من وسط العين.
ب - أو غير ممكن: كقول الخطيب القزويني:

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

 

لما رأيت عليها عقد منتطق


الجوزاء فلك مؤلف من ثلاث نجوم مصفوفة مستقيما (* * *) ولها توابع تحتها وفوقها تظهر في أيلول ومثل الشاعر الجوزاء قائمة بخدمة ممدوحه وجعل علامة لكونها خادمة أنها قد تمنطقت أي تحزمت بحزام في وسطها وهذه صفة الخدم والحزام هي النجوم قد أحاطت بها مثل العقد التي تكون بالمنطقة المربوطة وهذه العلة والتصوير غير ممكن.
وكقول الشاعر آخر:

قالوا اشتكت عينه فقلت لهم

حمرتها من دماء من قتلت

 

من كثرة القتل نالها الوصب

والدم في السيف شاهد عجب



والوصب: هو الوجع والمرض.
وهذا الوصف غير ممكن.
وكقوله:

عدائي لهم فضل علي ومنة

هموا بحثوا عن زلتي فأجبتها

 

فلا أذهب الرحمن عني إلا عاديا

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا


وهو غير ممكن أن يكون العدو له فضل في عداوته
وقول آخر:

لو لم يكن أقحوانا ثغر مبسمها

 

ما كان يزداد طيبا ساعة السحر

 

يعني لو لم يكن ثغرها عطر لما تعطرت الدنيا وظهر الريح الطيب في ساعة السحر وهذا الوصف غير ممكن وهكذا سحر السحرة وخيال المتخيلين.