البحث الثاني: في حذف المسند إليه

والحذف خلاف الأصل ويكون إما للاختصار ولوجود قرينة تغني عنه أو لوجود محذور من ذكره. وهو أما ظاهر معلوم للسامع مثل قولك في الترحيب: أهلاً وسهلاً فإنها نصبت بجملة مقدرة وهي جئت أهلاً وحللت سهلاً.
وأما غير ظاهر إلا بالتدقيق عند الإعراب وشرح المعنى: نحو قولك: يعطي ويمنع والتقدير أن الله يعطي من يشاء ما يشاء ويمنع من يشاء ما يشاء.
فقد حذفت الفاعل والمفعول والمفعول الثاني والمهم حذف الفاعل وقالوا بهذا الحذف أنه من بديع البلاغة ومن محسنات الخطاب.
ومن دواعي البلاغة في حذف المسند إليه ما يلي:
1 - ظهوره بقرائن وبحيث يعتبر ذكره تحصيل حاصل كقولة زوجة إبراهيم(ع) [فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ](1).
2 - تقدم ذكره في كلام السائل كما في أرجوزه ابن مالك وفي جواب كيف زيد قل دمق فزيد استغني عنه إذ عرف.
3 - إخفاء الأمر عن غير المخاطب كالإشارات بين المتكلم والمخاطب كقوله قد أقبل يقصد فلانا ويفصل حوله بدون أن يلتفت أحد إلى المقصود.
4 - إذا خاف من الشهادة عليه في وقت لاحق في ذم شخص فإنه يذمه بدون أن يصرح باسمه.
5 - السرعة في الكلام بمقتضى الحال كقوله هرب هرب أو امسكوه امسكوه بدون أن يفصل أنه السارق وأنه فعل كذا وكذا.
6 - القاء قضية بدون أن يمسي فاعلها عند الأحجية.
كقوله يستفاد نوره من الشمس) أو يطلع في الظلام دون النهار.
يقصد القمر أو يقول أن الشمس تنتقل ما بين جانبيه فلا يحزر أحد
فيقول أنه خط الاستواء.
7 - حالة السأم والتوجع كقول الشاعر:

قال لي كيف أنت قلت عليل

 

سهرٌ دائم وحزن طويل



8 - المحافظة على السجع كقوله (من طابت سريرته حمدت سيرته) فلم يقل حمد الناس سيرته.
9 - المحافظة على القافية: تقول

وما المال والأهلون إلا ودائع

 

ولا بد يوماً أن ترد الودائع.



فلو ذكر الفاعل فقال يرد الناس الودائعا خالف القافية اللازمة على الضم دون الفتح.
10 - المحافظة على الوزن:
كقول الشاعر:

على أنني راض بأن أحمل الهوى

 

وأخلص منه لا لي ولا ليا


أي لا علي شيء منه ولا لي شيء.
11 - كون المسند إليه معلوماً نحو [عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ](2).
أي الله سبحانه.
12 - تركك الفاعل إشارة لإتقان فعله كقولهم للخبز الطيب خباز وللباب أو الشباك المتقن الجميل شباك بخار أو باب حداد.
وللرمية المصيبة: رمية رامي) أي هذا خبز وهذا شباك وهذا باب وهذه رمية.
13 - تعظيماً له لا يذكر اسمه كقول الشاعر في وصف النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام:

مهابط وحي الله خزان علمه

 

بها فتح الله الدنا وبهم ختام.



14 - لم يذكر تحقيراً له واستصغاراً لشأنه كقوله تعالى: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ](3).
15 - لتكثير الفائدة كقول يعقوب(ع) ما حكته الآية [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ](4). أي صبري أو أمري صبر جميل.
16 تعينه بالعهدية كالآية الكريمة: [وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ](5).
أي السفينة واسمها معهودٌ بالذكر السابق والجودي لعله الجبل وقد وجدت سفينته في بعض الحفريات مكتوب عليها توسلات توح(ع) لنجاته بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: [حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ](6). [فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ] يعني سليمان المذكور قبل كم آية وعلى الجياد المذكورة قبل كم آية. ويحتاج الحذف وكذا الذكر إلى الذوق الأدبي الصائب.


(1) الذاريات 51/29.

(2) الأنعام 6/73.

(3) البقرة 18.

(4) يوسف(ع) 12/18/83.

(5) هود(ع) - 11/44.

(6) ص 38/32/33.