45- وصيَّتي بالصبر وأقسامه:

ورد في نهج البلاغة: قال أمير المؤمنين وقد عزَّى الأشعث بن قيس عن ابن له: (يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور) وعن أمير المؤمنين(ع) (أيها الناس أوصيكم خمساً لو شددتم إليها المطايا حتى تقضوها لن تظفروا بمثلها ألا لا يرجونَّ أحدكم إلا ربه ولا يخافنَّ إلا ذنبه ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم وإذا سئل عما لم يعلم أن يقول لا أعلم ألا وإن الخامسة الصبر فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له ومن لا رأس له لا جسد له). الصبر على أربعة أقسام صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر عند الفرح وصبر عند المصيبة فإن الشخص إذا كان ضعيف الإيمان لا يهتم بآخرته فلا يصبر على طاعة الله وإنما يطلب عنها المعاذير وخصوصاً إذا كان فيها بعض المشقة كالقيام للصلاة في حالة البرد الشديد أو حالة النعاس و الصوم وخصوصاً في الحر والجهاد في سبيل الله وقد كان للنبي (ص) بلايا مع قومه حين يطلبهم للجهاد وفي ذلك آيات كثيرة منها (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ)20 محمد, ونقل عن السيدة مريم أنها سئلت هل تحبين الرجوع إلى الدنيا فقالت بلى (للصوم بالصبرات والوضوء بالسبرات والصلاة في السهرات) أي للصوم في الأيام الحارَّة والوضوء في الأيام الباردة بالماء البارد.
وأما الصبر عن معصية الله تعالى فهو أشد خصوصاً إذا كان الشخص مدمناً وأفضل الصبر ما كان في وقت حاجته واشتداد رغبته به كالشاب شديد الشهوة تدعوه امرأة جميلة للفاحشة فيمتنع قربة لله تعالى فإن الملائكة تهلِّل له وتفرح به لا ما كان بعد جزعه وعدم رغبته كما روي أن رجلا جاء للإمام الصادق تائبا وكان صاحب غناء وينفخ بالبوق فقال له الإمام افتح فمك ففتح فمه وإذا به قد كسرت أسنانه من كثرة النفخ، فالتوبة لعدم القدرة على الاستمرار في الغناء مقبولة إن شاء الله أيضاً ولكن ليس كمثل توبة القادر الراغب فعن النبي (ص) (فضل الشاب العابد الذي يعبد في صباه على الشيخ الذي يعبد بعدما كبرت سنه كفضل المرسلين على ساير الناس) نهج 2046 وأما الصبر عند الفرح فهو مهم ومبتلى به كثيراً فإن الإنسان قد يصل به الفرح إلى الموت فيشهق بفرحته ويموت كما لو التقى بعزيز كان آيساً منه وقد يجرُّه فرحه إلى المعاصي فيترك طاعة الله ويذهب ويشرب الخمر ويعمل حفلة غناء ورقص ولا يستطيع أحد الرد عليه إذ يراه قد جنَّ بابتهاجه وغرق في فرحته فارتجف قلبه وتغيرت طبيعته وهذا من خفة العقل ولو كان عاقلاً لتذكر أن الدنيا لا يدوم فيها فرح ولا يخلد فيها سرور والنجاح في كل شيء فيها ما هو إلا سراب يمضي ليومه ويذهب أدراج الرياح قال النبي (ص) (ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنىً مطغياً أو فقراً منسياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً) نهج الفصاحة 59.
وأما الصبر عند الحزن فدواؤه تذكُّر الموت وعذاب القبر والحساب والكتاب والثواب للصابرين المحتسبين وأن المبتلين في الدنيا لهم درجات في الجنة يغبطهم عليها الخلائق وأن الله يفعل ما يريد وأنه ليبتلي العبد بما يرى له فيه المصلحة فإن صبر وتحمل وزاد ميلاً للتقوى من الله والعمل الصالح جرى عليه القدر والبلاء وهو مأجور مبرور مرحوم مغفور وإن جزع وزاد بعداً عن الله تعالى مضى فيه حكم الله وهو مأثوم يلقى عقابه في الآخرة وعن النبي (ص) (ما من عبد ابتلى ببلية في الدنيا إلا بذنب و الله أكرم و أعظم عفوا من أن يسأله عن ذلك الذنب يوم القيامة) نهج الفصاحة ح3678 وعن النبي (ص) (ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ كظمها رجل أو جرعة صبر على معصية وما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع أريقت من خشية الله وقطرة دم اريقت في سبيل الله) نهج الفصاحة ح3583 وبعد هذا ففي مصائب ومظالم محمد وآل محمد 4 للمؤمنين أعظم العزاء قال الشاعر عن لسان الإمام الحسين(ع):
شيعتي مهما شربتم عذب ماءٍ فاذكروني
أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبـوني
فانا السبط الذي من غير جـرم قتلوني
وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني
ليتكم في يوم عاشورا جميعاً تنظـروني
كيف استسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني
وسقوه سهم بغي عوضَ الماء المعين
وإن كل مصيبة تصيب الناس قد أصابت أهل بيت النبوة وشاركوا جميع أهل الأرض بمصائبهم فالقتل بالسيف لأمير المؤمنين(ع) والذبح بالخنجر للإمام الحسين(ع) والسم مرات عديدة حتى القتل لأكثر المعصومين والقتل بالسحق خلف الباب واسقاط الجنين وبشدة الحسرة لفاطمة الزهراء(ع) والسجن الطويل ثم القتل بالسم والنداء على الجنازة بالسب والشتم والشماتة للإمام الكاظم(ع) وهتك الأعراض وضرب النساء وسبيهن مربقات بالسلاسل وبدون المحامل حتى تقشرت وجوههن من حرارة الشمس لنساء الإمام الحسين(ع) وأسر النساء والأطفال والجرحى في سفر طويل من مكة إلى بغداد وإجاعتهم جوعا شديدا وعدم سقيهم الماء ثم قتلهم ذبحاً لأسرى الحسين شهيد فخ والحبس بالبيوت بزعم الإضافة للإمام الجواد(ع) وإدخال جواسيس للسلطان الظالم في بيوت المعصومين الطاهرين للإمام الحسن(ع) بتسليط زوجته جعدة بنت الأشعث عليه في بيته وتلقي أخباره منها وكذلك الإمام الجواد(ع) بتزويجه أم الفضل بنت المأمون وهكذا.