أولاً –من الخيانة الغيبة:

فإنك حين قابلت الشخص العاصي لم تجرأ أن تدلي له بذنبه لعله يتوب أو يخفف ولما فارقته صرت تشنِّع عليه وتذمَّه وتسقط شخصيته بين الناس وفي تسمية الغيبة الذم في غياب الشخص سواء كان حقاً وهو الغيبة أو كذبا وهو البهتان والافتراء وقد ورد تسميته بالخيانة في الآية الكريمة وذلك قول زليخا حين أقرت بأن يوسف بريء وأنها هي التي راودته قالت (ذلِكَ) أي ذلك الإقرار بالحق (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) يوسف53 وهو بأن تفتري عليه أو تذمه في غيابه وكان من توفيق الله لها بسبب عدم خيانه نبي الله بغيابه بل ومدحه أن وفَّقها الله للزواج منه وعودها إلى الفتوة بعد الشيخوخة والهرم حتى ولدت له ولدين وبنتاً وغفر الله لها خيانتها لزوجها الأول، وفي دستور الولاية الذي كتبه أمير المؤمنين(ع) إلى الوالي مالك الأشتر (رحمه الله) قال: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس فإن في الناس عيوباً الوالي أحق بسترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره عن رعيَّتك) وفي الحديث (كذب من زعم أنه ابن حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة) هذا وقد مثل الله تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان فقال تعالى ((وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)) الحجرات.
والغيبة هي مرض نفسي قبل أن تكون إثما وهضم حق إنسان يجب حفظه بين الناس فإن المغتاب لو لم يكن مريضاً بمرض الحقد والعداوة لذلك المؤمن لما أجاز لنفسه أن يسقطه وكيف تُدخل هذه النفس التي تعيش الحقد وخسَّة الطبع ونذالة السيرة وحقارة المقاصد في علاقتها مع المؤمنين كيف تدخلها في ربقة المؤمنين وتحشرها معهم احتراما في الدنيا ونوراً ورضواناً وجنةً في الآخرة وراحة ونشارة في القبر كلا ثم كلا، نعم إلا أن يحقِّره الله ويفضحه كما حقر وفضح المؤمنين ويعذبه في قبره إلى يوم القيامة فتمحص نفسه القذرة ويعفى ما زاد من الذنوب فيشفع له وإلا فلا، ثم إن للغيبة موارد تجوز فيها:

1- المتجاهر بالفسق فإنه قد هتك نفسه ولا يهتم بما قال الناس فيه فلا حرمة لعيبه بوجهه أو بغيابه.

2-  المبتدع الذي أفتى بما هو خلاف الشرع بحيث كان ظاهر الخلاف على أهل الحق فهذا يستغاب كما في الحديث في المفتين بالباطل (أكثروا فيهم الوقيعة حتى لا يتبعهم الناس) عن الإمام الصادق(ع).

3- المظلوم له أن يستغيب ظالمه بما ظلمه فإن كان ظالمه مستوراً فلا يفضحه بذنوب أخرى وإن كان متهتكا فلا بأس بذكر غير مورد الظلم أيضاً.

4- المذنب المصر الذي لا ينفع معه الوعظ الفردي حتى يذكره الواعظ عند آخرين للضغط عليه فلا بأس لهذا الغرض.

5- المستنصح إذا رأى المسؤول أن مقتضى النصيحة أن يذكر معايب الشخص الذي يسأل عنه كما إذا أراد أن يتزوج فتاة فسأل عنها العارف بها وكان المسؤول يعلم أنها لا تصلح له لأنه مؤمن شريف عفيف وهي ليست كذلك بما تسبب له الحرج وسوء السمعة فله أن ينصحه بذكر بعض المعايب.

6- غير المستنصح إذا كان يعز عليه وعرف بأنه مغرور فله أن ينصحه حتى يقلع عن الرغبة بتلك البنت أو عن شراء هذا الدار أو هذه الأرض أو العمل بهذا المعمل أو مع الجماعة الفلانية وكل ذلك يوجب شيئاً من ذم بعض المرتبطين بالموضوع فلا بأس بمقدار رفع المظلمة وليكن صادقاً فيما يقول في المذموم من إنسان أو أشياء مستحقه لذلك الذم.

7- أن يذم شخصاً أمام الظالم حتى يتركه كما إذا أراد شخص سجن شخص ظلماً أو التعدي عليه فأنا آتي بالمطلوب قتله فأسبه وأضربه عدة ضربات وأطرده بشدة ثم أطلب من الظالم أن يعرض عنه فأحفظ بذلك دمه وعرضه وما شابه كما فعل الإمام الصادق(ع) أنه ذم أمام المخالفين عدة من خواصه وعظماء أصحابه مثل زرارة (رض) ومحمد بن مسلم (رض) ومن شابه لئلا يحتمل الظالم بأنهم من أصحابه فيطاردهم ويقتلهم أو يسجنهم ثم قد أعتذر الإمام(ع) منهم سراً.

8- من كان متمكناً بشيء فيه ضرر على الناس فهذا يفتضح لئلا يتمكن من الإضرار، كما إذا كان يخفي سلاحاً ليحصل على فرصة يجرح أو يقتل فيها شخصاً بريئاً وكذلك مثل الجاسوس الذي يلتقط الأخبار للسلطة الظالمة.

9-  الإمام المسؤول الجائر والقاضي الجائر والمرتشي بحيث لم يحقق حقاً ولم يبطل باطلاً ففي الحديث (ثلاثة لا تحرم عليك أعراضهم) إي غيبتهم (المجاهر بالفسق والإمام الجائر والمبتدع)عن النبي (ص) .