2) مناقشة مع متعهِّد حجاج:

تعاقدنا في بغداد مع حملة للحج والزيارة, يرأسها رجل اسمه حاج مسلم فكان منه للحجاج مظالم واستهتار بحقهم كثيراً, وسأناقشه في هذه الوريقات لعلّ الله ينفع بها بعض من يتعهد للناس في أمر ولا يقوم بتفريغ ذمته وأداء ما عاهدهم عليّه.
وقد أرفقت بجنبي من يسكت الحاضرين لو حصل منهم نزاع ويسكته إن صرخ ويعدل موقفه إن خالف الآداب واسمه أحمد.
يا حاج مسلم إن الشريعة الإسلامية تقول أن متعهد الحجاج والزوار العهدة عليه بأحد عملين فإنه إما أن يتعهد للمتعاقد معه على النقل وأداء جميع المعاملات الرسمية والأعمال اللازمة للسفر والرجوع وتهيئة المساكن والمنازل وما شابه مما قد سلكه هو قبلاً ويعلم طريقته وهم يجهلون لأنهم في الغالب يحجون لأول مرّة وإما أن يتعهد معهم على هذا وعلى التعليم وإتمام جميع شعائر الحج لهم فيزيد على ذلك بأن يستأجر لهم عالماً دينياً متقناً للأحكام ويجعل له مساعدين بالمقدار اللازم والمناسب لعدد الحجاج والمناسب لمقدار جهلهم بالحج أو علمهم به, فإن كانت العهدة منك هي الثانية فأنت لم تقم بها أصلاً فإنك حين وصلت إلى المسجد الحرام هربت منهم وحيرتهم, وكنت تزعم لهم على طول الطريق بأنك سوف تقودهم في أعمال الحج وأنك متقن للأحكام ومتعلّم عند العالم الفلاني وحتّى تفرقوا وضاع بعضهم بسبب استهتارك ومجونك فصرخ به جماعة من الرجال فقام صاحبي أحمد وأسكتهم وهدأهم.
قلت وحتّى أن الحاج مهدي قد نزع الإحرام وسبّ المقدسات حين ضاع وكاد أن يرتد عن الإسلام جزعاً من عملك وجماعتك إذ ضيعتموه ولم تدلّوه الطريق ولم تعلموه أعمال الطواف وغيره، ولكن والحمد لله قد وقفنا بوجهه وألبسناه الإحرام, وأعاد النيّة والتلبية ثانياً وعلمناه أعمال العمرة كاملاً هذا وهو يبكي ويستغفر الله مما حصل منه فقام الحاج مهدي وقال إي والله ما أبريك الذمة مما قصَّرت في حقي قلت: اجلس يا حاج مهدي واستغفر له فإنه غير معصوم عن الخطأ.
قال حاج مسلم: إنما فعلت ذلك جزعاً منهم لكثرة نزاعهم واختلافهم معي.
قلت: كلا جوابك غير صحيح إذ لو كان جماعة منهم قد نازعوك فما ذنب البسطاء والطيبون وأكثرهم كما تراهم بسطاء ووادعين وكيف يقدرون عليك وأكثرهم كبار السن وضعفاء وأنت رجل بطل كالصنديد قال إنّي لم أقصّر معهم إذ جئتهم بجماعة من العارفين بأحكام الحج وأداء الأعمال ومنهم أنت.
قلت: إنك لم تأت بي ولا بغيري لهذا الغرض وأيضاً إنك لم تشر لي ولا لغيري بإرشاد الحجاج بل إنك خدعت الناس وتكفَّلت للمساكين في الطريق بكل شيء من تعاليم العبادات وقيادتهم في أعمال الحج وزعمت أنك عارف لكل تلك الأحكام لممارستك وتساؤلك الكثير مع العلماء وجئت لهم بعدة أسماء علماء, ولو كنت كلفتني بالتعليم والتوجيه بأجرة كما هو المفروض أو بغير أجرة, ربّما كنت أقبل رغم أني حريص على تصحيح عملي وأعمال الحج أعمال شاقة ومتعبة تشغل المرشد عن بعض العبادات ولكن التنصُّل عن خدمة الناس ولو كان مجاناً، صفة سيئة ولا تحسن من رجال الدين بل ترك الناس يتخبَّطون بالعبادات بجهلهم حرام شرعاً, فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيه المجتمع للعمل الصالح وتصحيح الأعمال، هذا واجب على كل مؤمن متقٍ لله تعالى, فضلاً عن وجوبه على علماء الدين وفضلاء الشريعة.
قلت: هذا لو كانت معاهدتك معهم العمل مع التعليم, وأما لو كانت معاهدتك لهم بالنقل والعمل لهم بتحقيق السفر والسكن ومراجعة الدولة فقط وبدون العهدة بالتعليم، فأنت لم تقم لهم أيضاً بذلك، فإنك قد أشقيتهم في كل حاجة مطلوبة لهم في سفرهم وسكنهم بالخيام, وقد تقاعست عن الذهاب إلى المطوف حتّى قام جماعة منهم وراجعوا المطوف، وضاع جماعة منهم فلم تراجع إدارة الحج لاستلام الضائعين إلى أن جزعوا وأصابهم ما أصابهم.
حتّى قام جماعة بالتفتيش عليهم وأرجعوهم للخيام, وتأجير البيوت تقاعست عنها حتّى ذهب جماعة لتفتيش البيوت المناسبة، وهربت حين طلب صاحب البيت الأجرة حتّى اشتكى عليك, وصارت الشرطة يراجعون الحجاج ويداهمون القافلة مراراً وتكراراً فحين ظفر بك قلت: أنك قد خسرت في هذه الحملة واتهمت جماعة من الحجاج بالتقصير فأشغلت الشرطة بأخذ الناس و إهانتهم.
يا ويلك من عذاب الله أتعلم كم هذا الحاج عزيز على الله إذ وفَّقه للضيافة في بيته الحرام واختاره وغيره من بين مليار مسلم في الأرض، ماذا تجيب ربك يوم القيامة, وقد سببت الإهانة وعدة من المظالم لضيوفه وعباده الصالحين المتعبدين؟
و حينها قام جماعة وأرادوا التصايح والتنازع, فقام أحمد وأسكتهم وأجلسهم.
وقلت: اتق الله وأحسن سيرتك معهم ورد لهم ما قصرت بحقهم واعتذر لهم عن المظالم, واعلم أن نجاحك في السنين القادمة كمتعهد حجاج يتوقف على عدة أمور.
الأول: أن توضح للمتعاقد معك مسؤولياتك التي تلتزم بأدائها له من العمل والسفر والسكن مع التعليم أو بدون تعليم ومع الطعام أو بدون طعام, وهكذا.
الثاني: أن تكون حسن الأخلاق رحيماً بالناس عطوفاً عليهم محترماً للكبار عطوفاً على الصغار, ولا تتناقض بتصرفاتك فتحسن أخلاقك قبل السفر ليتعامل معك مجموعة أكبر من الناس وتسوء أخلاقك ويسقط ضميرك عند أداء الحقوق والقيام بالمعاهدة فإن هذا التناقض من شيم لئام الناس وذوي الغش والخداع وقد قال رسول الله 4 (ذا الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله) غرر الحكم.
الثالث: أن تتقن أحكام الحج لتؤديها لنفسك صحيحاً وتصحِّح أعمال الخاطئين من الحجاج.
الرابع: أن تستدل أنت على بعض مقرّات العلماء في مواضع الحج لتراجعها وتدل من شاء من الحجاج للتعرف على العلماء والتساؤل معهم عن أمور الدين وتصحيح الأعمال.
الخامس: التسامح مع الناس عن المال فلا تفرض أجرة باهظة وتسامح المعوز منهم عن بعض ما عليه وتحسبها هدية أو تحسب عليه من الحقوق الشرعيّة إن كان ممن يستحقها.
السادس: أن تكون نشيطاً في أداء الواجب من تحصيل الأوراق اللازمة ومراجعة الدوائر الرسميّة وتحصيل السيارات والبيوت والحاجات اللازمة.
السابع: أن لا تقصِّر في تطويف الحجاج ونقلهم لمواضع الزيارات ودلّهم وتعليمهم حتّى لو كانت معاهدتك عدم الالتزام بالتعليم, فإن تعليم الناس أمور الدين واجب شرعي, إن لم يكن عهدة تعاملية ولا التزاماً عقديّاً
الثامن: أن تفصل بين المتنازعين في قافلتك وتحل لهم مشاكلهم لا برأيك فإن الفتوى حرام شرعاً، وإنما بمراجعة العلماء ورسائلهم العمليّة والرجال والكتب الموثوقة في دين الإسلام.
التاسع: أن تستأجر معك مجموعة من العمال يساعدونك في كل الأعمال فإن كانت عهدتك بالطعام فتأتي بطباخين وإن كانت تعليم أحكام الحج فتأتي بعالم ومطوفين، ومن دون ذلك يجب أن تأتي بعمال للنقل والتنظيف ومراجعة الدوائر وتهيئة السكن وهكذا.
العاشر: أن تكون ورعاً متعبّداً زاهداً بحطام الدنيا تقيّاً خيّراً شريفا عفيفاً رحيماً ويكون ذلك من واقع قلبك وضميرك فإن وظيفتك قيادة الناس للأماكن المقدّسة وتأدية فرائض الله وظيفة مقدّسة شريفة عظيمة الدرجة لا يصلح لها إلا الشريف العفيف التقي من خالص قلبه وواقع مقصده.
الحادي عشر: أن تحاسب نفسك عن الحقوق الشرعيّة من الخمس والزكاة وغيرها وكفّارات الحج وغيرها ولا تبقِ شيئاً في ذمتك حتى لا تسمّى عند الله سارقاً غاصباً ففي حديث الإمام الصادق (ع) (لا يحلّ لرجل أن يشتري شيئاً ويقول اشتريته بمالي حتّى يؤدي إلينا حقنا).
وفي الحديث (ويل لمن كان شفعاؤه خصماؤه).
الثاني عشر: أن تقنع بالربح القليل على الناس في حملاتك للحج والزيارة لأن (القناعة كنز لا يفنى)، وفي الآية الكريمة ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)) الحشر.
الثالث عشر: عند الرجوع وقبل المفارقة, تعتذر من كل واحد عن التقصير وعدم أداء الواجب فإن ذلك من حسن الأخلاق ومما يحببك إلى الناس ومما يوجب لك البراءة عند الله تعالى فيما لو حصل منك تقصير بحسب علم الله أو بدعوى الناس، كما وتسامح المسيء منهم ففي الآية الكريمة ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)) فصّلت.
الرابع عشر: إذا رجعت أو في الطريق لا تشهر وتفضح الحجاج والزوار في أخطائهم معك أو مع غيرك أو مع الله ولو ذكرت شيئاً منه فلا تعرّف الفاعل وتشهره، وعلى كل حال ستر عورة المؤمنين موجب لرضوان الله ولأن يستر الله عورتك بين الناس ويهون عليك الحساب يوم القيامة.

 

والنتيجة:
أنك لو التزمت بكل ذلك فستحصل على خير كثير ومنه:
1- أن الله يحبك ويبارك لك في رزقك ويوفقك لخير الدنيا والآخرة ويجعلك مع كرام عباده الذين كانوا مستجابي الدعاء عنده, حتى أنك لو وضعت يدك على مريض داعياً له فإنه يشفى ولو دعوت لأحد قضيَت حاجته, كما في الحديث القدسي (عبدي أطعني تكن مثلي, تقول للشيء كن فيكون بأمري)، ويحشرك الله مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
2- ستكون محبوباً عند المجتمع مقرّباً عند العدو والصديق, كما ترى سيرة الناس مع النبي وأهل بيته المعصومين فإنهم يظلمونهم مع ذلك يحبونهم ويقرون بفضلهم حتّى أني قد جمعت مجموعة من إقرارات أعدائهم بحقّهم وتكون كما دعا إبراهيم ربّه ((وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) )) الشعراء.
وقال الله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)) مريم.
أي يجعل مودتهم في قلوب الناس.
3- قال الله تعالى: ((وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)) الصّف.
وذلك بأن ينصرك الله فتكثر حملتك ومراجعوك وتتفوق على حملات الآخرين وتترقى بالسمعة الطيبة.
4- تورث أهلك وأبناءك عزة وكرامة بين الناس بحيث يكون ولدك وابنتك وزوجتك وأخوك وغيرهم أينما حلُّوا يحترمون ويوقَّرون ويعزَّزون ويقال أن هذا ولد الحاج فلان وهذا أخو فلان, وهكذا، كما قال رسول الله 4 (جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً).
ومعلوم أن احترامك للناس وتصحيح حجهم وأداء تمام حقوقهم والتسامح مع المقصر, أنّه من الجهاد وليس الجهاد فقط في القتل والأسر, فهذا هو الجهاد الأكبر فلاحظ جيّداً.
والحمد لله رب العالمين.