3) مناقشة مع شاب جازع من حكم الله تعالى:

خالد شاب بالعشرين من عمره يلعب يمرح ويضحك بضحكات عالية ويصاحب الجنس الآخر ويسهر السهرات الماجنة, ولا يسمع نصيحة لأحد من الناس.
فأمات الله سبحانه أبويه في أسبوع واحد, فانطوى على نفسه وأخذه الغم والهم, وأخذ يعلن تشكيكه بحكمة الله وعدالته ولا يكلّمه أحد إلا ويقول أنه لماذا خلقنا الله ولماذا يأخذنا, ومن هو الله وكيف هو الله... فهذا الأحمق ذاهب في حزنه كما كان ذاهباً في حمقه ومجونه أيام فرحه وهذا شأن الجاهلين وعديمي التربية.
ومن أين تأتي التربية لعوام الناس وهم يعيشون الفراغ إذ ترى العلماء منهم ملتهون بالشهوات واللهوات المحرّمة والمكروهة كالناس، والمؤمنون الملتزمون بالعبادة منهم قابعون يرون أنفسهم شعب الله المختار وبقيّة الناس أبناء الأفراس !
لا ينبسون ببنت شفة ولا يفيضون على الآخرين مما ألهمهم الله من العبادة والعلم والتقوى، وهؤلاء باعتقادي أشد عقاباً من الجاهلين الخاطئين كما في بعض الأحاديث, يقول أبو عبد الله (ع) (أما لأحملنَّ ذنوب سفهائكم على علمائكم).
و (أوحى الله عزوجل إلى شعيب النبي (ع) أني معذب من قومك مئة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم فقال (ع) يا رب هؤلاء الأشراء فما بال الأخيار، فأوحى الله عزوجل إليه داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي).
ولنرجع إلى خالد إني رأيت تساؤله يشبه تساؤل بعض الشعراء الفاسقين الذين صنعوا بأيادي الخلفاء الظلمة والفجرة كخلفاء بني أميّة وبني العباس والعثمانيين فتخرّجوا فسقه ومرتابين مثلهم, ومنهم عمر الخيّام والذي في ظاهر رباعيّاته يشكك بحكمة الله, ويربط كل شيء بالخمر ولزوم حضور مجالسه وشربه، ومن رباعيّاته القذرة:
جاء من حاننا النداء سحيراً                 يا خليعاً قد هام بالحانـات
قم لكي نملأ الكؤوس مداماً                 قبل أن تمتلي كؤوس الحياة
يأمر الشباب بشرب الخمر قبل أن يشيبوا فيفقدوا لذتهم.
ويقول:
الدهر ما صـافى أمرءاً كلا وكم          من عاشق أردى ومن معشوق
من مـات لا يحيى لعمرك مرّة              أخرى فبادر وأحس جام رحيق
يكذب بالحياة بعد الموت ويأمر بالمبادرة بكأس الخمر.

وهذا تساؤل ملحد ماجن شبيه بتساؤل جليسنا في هذا البحث خالد حيث قال:
لماذا غداة الرب ركَّب هذه                   العناصر لم يحكم تناسبها الرب
إذا راق مبناها ففيم خرابها          وإن لم ترق مبنىفممَّن أتى العيب
يقول: إن كانت الحكمة تقتضي حياة البشر وهذه الطبيعة حوله فقد صنعت وأحسنت فلماذا تميتهم وتخرّب حياتهم, وتذهب بهجتهم, وإن كانت الحكمة لا تقتضي وجودهم ولا فائدة فيه فلماذا أوجدتهم وأبدعت شيئاً غير متناسب وغير حكيم؟
تساؤل سخيف وأحمق فإن الله سبحانه أحكم صنعه وأوجد الإنسان وجعل الدنيا طريق لسعادته وخلوده في الجنان ولم يجعلها دار مقر، كمثل ما أبدع الله في الطفل يعطيه أسناناً ضعيفة المغرز حتّى إذا أدمن عليها وتعلَّم سحق الطعام بها أسقطها منه وأبدله بأقوى وأدوم وأصح منها, فيكون قد أنعم عليه بما يصلحه في كل أدوار حياته.
وسأضرب لك مثالاً آخر عند سرد مناقشة خالد.
ومما قال الخيام أيضاً:
هل الجام مهماتمَّ صنعـاً ودقةً              يرى كسره من كان منتشياً سكراً
الجواب: كلاّ
ففيم يرى الخلاق ساقاً لطيفة                 ورأساً وكفاً ثم يكسرها كسراً
فلماذا يخلق الله امرأة جميلة قد وصف الشاعر أعضاءها ثم إن الله يميتها؟!
(مناقشة الشاب النزق خالد لجزعه بموت والديه) جلست عنده وأشرت إلى كوب أمامه وقلت له: إن هذا الكوب هو ملكك الخاص فخذْهُ ثم رفعته وسلمته إياه, وقلت إني غاضب جدّاً ومشكك بعدالتك وحكمتك (لأنك استلمت كوبك المملوك لك. ثم سحبته منه وقلت: لا أقبل أن تأخذه أبداً وإنما تبقيه خالداً مخلّداً في الأرض وإلا فأنا ناقم عليك ومرتاب في كل شيء في كيانك, فهل يصح تصرّفي هذا وزعلي وغضبي وتعدّياتي ومذمتي لك أم أنا معتدي وآثم وظالم.
فقال: صحيح أنت تعتبر بهذا التجاسر عليّ ظالماً معتدياً وغير عادل في طلبك بالتخلّي عن ملكي.
قلت له: نعم, وهكذا قال رسول الله (ص) (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)
(لا يحل مال إمرء مسلم إلا بطيبة نفسه)
نعم، يحسن مني أن أرجوك هبته لي أو إبقاءه عندي مدة ما فتكون أنت مخيّراً بين قبول طلبي وتبقيه لدي أو عدم القبول.
قال: صحيح.
قلت: وهكذا أنت قد غضبت على ربك ونقمت وشككت وساء ارتيابك بحكمته ولطفه وكرمه وخيره وآلائه وعظمته وعلمه …
لأنه قد أرجع رهينته وأخذ عباده إليه لا ليهلكهم بل ليكرّمهم, ويحسن إليهم ويدخلهم في جنّاته ونعيمه الخالد بما فعلوا من الحسنات وأصلحوا في الحياة الدنيا ويعفو عن أكثر أعمالهم والتي هي سفاهات وذنوب واتِّباع الشيطان اللعين.
فماذا تريد من كرم الله لك ولأبويك أكثر من هذا وأي شيء بعد هذا, يدل على اللطف والحكمة والعدالة والرأفة والرحمة …
وفي الحديث (إن لله مئة رحمة, قسم بين عباده واحدة وأبقى لنفسه تسع وتسعين رحمة يرحمهم بها يوم القيامة).
وهذا تجده في تفسير قوله تعالى (الرحمان الرحيم).
قال: فما الحكمة في هذه الكثرة من التغييرات في الكون والتنقلات الصعبة والمؤلمة من عالم إلى عالم ومن حياة إلى حياة.
قلت: قال في الحديث الشريف (من له الغُنْم فعليه الغُرم) أي أن من أراد أن يغنم غنيمة فليبذل ويغرم بقدرها وإن البضاعة إنما يعطى ثمنها بمقدار أهميتها.
فإذا أردت أن تسعد في حياة أبديّة وسعادة خالدة في جنات رفيعة, وفيها أجمل النساء وأشهى الطعام وألذ الشراب وأحلى الرياش والفراش ((لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)) الواقعة.
((حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)) الرحمن.
وتريد خداماً صغاراً بأجمل ما يتصور العقل, كما في الآية ((وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)) الإنسان.
وإذا أردت ذلك وأعلى من ذلك خالداً مخلّداً لا تذوق فيها موتاً, ولا ترى شمساً, ولا زمهريراً ولا مصيبة فعليك أن تبيع لله نفسك وتتحمل ما يقع عليك من المصائب والآلام.
كما تسمع في قصة الزهراء (ع) إذ رآها رسول الله (ص) تطحن الحنطة ليقسمها علي (ع) على الفقراء وقد مجلت يداها من كثرة العمل و أنهكت قواها وانهدَّ ركنها, وكانت طاوية على الجوع والشقاء, قال لها رسول الله 4 (تحمَّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة).
وبقيت على ذلك حتّى ماتت في عمر الزهور مقهورة مظلومة مسحوقة خلف الباب مهضومة حقّها مغصوبة أرضها, وفي الخبر أنها سوف تشرق في الجنّة كالشمس, وعند ضحكتها سوف يهتز ذلك النور في الجنّة حتّى يحس الناس ويفرحون لفرحها, فإذا أردت تلك الدار فاعمل لله سبحانه خالصاً ولا تعمل المعاصي ((وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17)) لقمان. وقال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)) القصص.
ثم اعلم أن من حكمة الله تعالى أن كل خير لابد أن يتم بمراحل, والطفرة باطلة غير مصححة عقلاً عند الفلاسفة فلا طفرة في الحكمة, وإنما الهدوء والتدرج.
وهكذا ربنا سبحانه يعطيك هذه الحياة ويجرّب طاعتك وصبرك وحسن سيرتك, ثم ينقلك منها إلى الحياة الخالدة ويتسامح معك عن كثير من أخطائك وأعمالك المخالفة فلاحظ جيّداً واشكر ربك ((إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)) البقرة.
وقال تعالى ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)) البقرة.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين, هداك الله وهدانا وصبَّرنا على بلائه ووفَّقنا لخير عبادته وطاعته إن شاء الله تعالى.