36) من المشاهد التغابن بين الناس وما شابهه:

قال تعالى: ((يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الفوز العظيم (9) )) سورة التغابن.
1- إن من نتائج الحساب أن يغبن الناس بعضهم بعضاً فيدخل المؤمن الصابر الدرجة الخامسة مثلاً في الجنة ويقال له إنك لو لم تصبر لكنت في الدرك الخامس من النار، ويقال لأهل الدركة الخامسة إنكم كفرتم وجزعتم من اتباع الحق فأخذ موقعكم فلان في الجنة لأنه ابتلي بما ابتليتم به فصبر وبقي مؤمناً واستحققتم أنتم النار، وفي الحديث أن موالي أهل البيت(ع) يغبنون مخالفيهم فيأخذون مواقعهم في الجنة وذلك أنهم أذهبوا عليهم سعادتهم وأخافوهم في الدنيا.
2- ورد في الحديث (حب علي حسنة لا تضر معها سيئة)، فالسيئة هي الأعمال غير المستحسنة فإنها تكفر عن الإنسان المؤمن وقد مر منطوق آية التغابن بأن السيئات معفوة مكفرة للإنسان المؤمن وهي غير الجرائم والذنوب الكبيرة.
وهذا ما تشير إليه الآية أيضاً: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) (3) محمد، وليس المقصود بالحق هنا القرآن فقط وإنما هو ولاية أهل البيت(ع) التي هي مقتضى العمل بالقرآن وتوصياته ثم إن القرآن وحده لا يمكن أن يعتبر حقاً بدون معرفة الأئمة الصادقين الذين دعا إليهم القرآن وأمر باتباعهم وسمّاهم الصادقين وسمّاهم أولي العلم والراسخين فيه وسمّاهم شهوداً والقرآن كتاب كل من الفرق الإسلامية تفسره بحسب مصلحتها ولذا تراه لم يكن الفيصل لحل النزاع بين الفرق الكثيرة وإنما هو كما في قول أمير المؤمنين(ع) (حمال ذو وجوه)، وعليه فالتكفير للذنوب إنما هو بموالاة أهل الحق واتباع طريقهم كما في الأحاديث الكثيرة المتفقة بين السنة والشيعة.
3- بعض المؤمنين يبدل الله سيئاتهم حسنات كما في الآية أنه بعد ذكر المؤمنين وأنهم يمشون هوناً ويسلمون على الجاهلين ويسجدون لله ولم يسرفوا في الإنفاق ولم يقتروا ولا يشركون بالله ولا يقتلون أحداً ولا يزنون.
قال تعالى: ((وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) )) الفرقان، واعلم أن هذه الآية ونحوها لم تبين أي نوع من التائبين يبدل الله سيئاتهم حسنات للعلم بعدم تعميم التبديل لكل التائبين لأن بعضهم يكفّر ذنبه ويغفر وبعضهم يبدل ومن المحتمل أن التبديل هو مخصوص فيمن كانت معاصيهم سبباً لهداية آخرين وسبباً لوضوح الحق كمن دخل في حزب للكافرين أو الفاسقين ثم تاب فإنه يكون سبباً لحس الآخرين بأكثر مما لو أرشدهم شخص من خارج حزبهم وهكذا فيما لو زنى ثم تاب فإنه يسبب تراجع مجموعة من الفاحشات وهكذا.
4- بعض العاملين خيراً يحبط أجرهم ويدخلون النار وكأنهم لم يفعلوا شيئاً، وإن إحباط الأجر وإبطال ثواب العمل إنه شيء شاذ عن مذاق الشرع ورحمة المولى سبحانه، ولكن له أسبابه التي تثبت أن لله الحجة البالغة في ذلك، وذلك فيما لو كان عمل المسلم كلما زاد من عبادة وكلما زاد من علم بالدين زاد بعداً عن الخط الرسالي والمرسوم الإلهي وما يفعل الله الذي أراد له الهداية بإيتائه العلم وأنعم عليه بمختلف النعم فاغتر هو بعبادته وعلمه أو بنعيمه ونافق وتآمر على الخط الصحيح ولذا ترى أن غير الملتزم من مذاهب المخالفين لأهل البيت(ع) أنه أهون من الملتزم ويمكن إدخال حب أهل البيت في قلب غير الملتزم وإمكان اهتدائه أسهل وأضمن من تقريب المتدين والمتعلم منهم فإنه كلما زاد علماً وتديناً زاد عناداً وإصراراً وهذا هو سبب الإحباط، فأرجو التدقيق معي في تحليل هذه الآية وعدم عبورها بالإهمال كما هي عادة أكثر القراء، قال تعالى: ((أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) كفروا بولاية أهل البيت من بعد النبي وليس كفروا بالله بدليل قوله ((أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ)) أي يتولون العباد الذين لم أجعلهم أنا أولياء ولم يكونوا عند الله أنبياء ولا أوصياء ولو قصد الكفار بالله لقال من دوني معبودين وإنما هي مسألة الولاية والتولي للخلفاء غير المنصوبين من قبل الله، ثم تابع: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ)) من عبادة وصدقة وجهاد ((فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) )) الكهف، ولو قصد بهم الكفار بالله لما قال وهم يحسبون لأن الكافر لا يعبد الله حتى يحسب أو لا يحسب فهو مسلوب الموضوع، ويوضح الكل قوله: ((أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ)) وهم الأولياء، إذ قال أمير المؤمنين(ع): (إني أعظم آية لله بعد رسول الله 4 )
((وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)) ولو لم يكن شيئاً من العبادات الإسلامية لما كان معنى للإحباط، ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) )) فهم مع كثرة أعمالهم لا احترام لهم ولا وزن شرعي لعملهم، فلاحظ جيداً.